فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين (8)}
تعليل للإِنكار والتوبيخ في قوله: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} [البلد: 5] أو قوله: {أيحسب أن لم يره أحد} [البلد: 7] أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خَلَق مشاعر الإِدراك التي منها العينان، وخَلَق آلات الإِبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
والاستفهام يجوز أن يكون تقريرياً وأن يكون إنكارياً.
والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلَّل إنكار ظنه إن لم يره أحد.
وذِكْر الشفتين مع اللسان لأن الإِبانة تحصل بهما معاً فلا ينطق اللسان بدون الشّفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون: ينطق بلسانٍ فصيح، ويقولون: لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة النطق.
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإِبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكرَ إلى النظر والبحث وذلك قوله: {وهديناه النجدين}.
فاستكمل الكلامُ أصول التعلُّم والتعليم فإن الإِنسان خُلق محباً للمعرفة محباً للتعريف فبمشاعر الإِدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يَعْلَمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.
والشفتان هما الجِلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يُمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.
وأصل شفة شَفَو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل: أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعُوضَ عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشِفاه.
والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفاً في حالة الوصل فقالوا: شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا: شفوين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله.
والهداية: الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه.
والنجد: الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل.
فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان، والطريق قد يكون مُنجدًّا مصعداً، وقد يكون غوراً منخفضاً.
وقد استعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز.
واستعير النجدان للخير والشر، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين، أو لأن كل واحد صعب باعتبار، فطريق الخير صعوبته في سلوكه، وطريق الشر صعوبته في عواقبه، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا بـ: {العقبة} [البلد: 11].
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 3] وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك.
وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم.
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعَرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلاً على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى.
{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11)}
يجوز أن يكون {فلا اقتحم العقبة} تفريع إدماج بمناسبة قوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير.
ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة {يقول أهلكت مالاً لبدا} [البلد: 6] وما بينهما اعتراضاً، وتكون (لا اقتحم العقبة) استفهاماً حذف منه أداته.
وهو استفهام إنكار، والمعنى: أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاققٍ.
وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر (لا) فإن شأن (لا) النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قوله: {فلاَ صَدَّق ولا صلَّى} [القيامة: 31] أو كانت (لا) معطوفة على نفي نحو: ما خرجتُ ولا ركبتُ. فهو في حكم تكرير (لا).
وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو {اقتَحَم العقبة} يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله: {فكُّ رقبة أو إطعام} فكأنه قال: فلا فَكَّ رقبة ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً.
ويجوز أن يكون عدم تكرير (لا) هنا استغناء بقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} فكأنه قيل: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاففٍ عن تكرير (لا) كالاستثناء في قول الحريري في (المقامة الثلاثين): لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب... الخ. وأُطلق {العقبة} على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة.
والاقتحام: الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال: اقتحم الصَفَّ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى: {وما يلقاها إلا الذين صبروا} [فصلت: 35].
والاقتحام: ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال:
والمورد العذب كثير الزحام وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة.
وقد تتابعت الاستعارات الثلاث: النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس.
والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق.
وقوله: {وما أدراك ما العقبة} حال من {العقبة} في قوله: {فلا اقتحم العقبة} للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم.
وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة.
و{ما} الأولى استفهام.
و{ما} الثانية مثلها.
والتقدير: أيُّ شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعْلَمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمراً عزيزاً يحتاج إلى من يُعلمك به.
والخطاب في {ما أدراك} لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل.
وفِعل {أدراك} معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة.
وقرأ نافع وابنُ عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخَلف، {فك رقبة} برفع {فكُّ} وإضافتِه إلى {رقبة} ورفععِ {إطعام} عطفاً على {فكّ}.
وجملة: {فك رقبة} بيان للعقبة والتقدير: هي فكّ رقبة، فحذف المسند إليه حذفاً لمتابعة الاستعمال.
وتبيين العقبة بأنها: {فك رقبة أو إطعام} مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس.
وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدَّر مضافاً فقال: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.
وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو والكسائي {فَكَّ} بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب {رقبة} على المفعول لـ: {فكَّ} أو {أطعم} بدون ألف بعد عين {إطعام} على أنه فعل مضي عطفاً على {فَكَّ}، فتكون جملة: {فكَّ رقبة} بياناً لجملة {فلا اقتحم العقبة} وما بينهما اعتراضاً، أو تكون بدلاً من جملة {اقتحم العقبة} أي فلا اقتحم العقبة ولا فكَّ رقبة أو أطعم.
وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفاً. والفك: أخذ الشيء من يد من احتاز به.
والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعينٍ ووجهٍ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء.
هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته.
وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسْرٍ أو مِلْك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع.
وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإِسلامي وهو تشوُّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام).
والمسغبة: الجوع وهي مصدر على وزن المَفْعَلَة مثل المَحْمَدة والمَرْحَمَة مِن سَغِبَ كفَرِح سَغَباً إذا جاع.
والمراد بـ: {يوم ذي مسغبة} زمانٌ لا النهار المعروف.
وإضافة {ذي} إلى {مسغبة} تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة، وذلك زمن البَرد وزمنُ القَحط.
ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإِطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتدادِ زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات.
فالإِطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة.
وانتصب {يتيماً} على المفعول به لـ: {إطعام} الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمالُ المصدر غيرِ المضاف ولا المعرّففِ باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثرَ، ومنع الكوفيون إعمالَ المصدر غير المضاف.
ومَا ورد بعدَه مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم (يطعم يتيماً).
واليتيم: الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ.
ووجه تخصيصه بالإِطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه.
فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه {ذا مقربة} أي مقربة من المطعِم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيماً إغاثة له بالإِطعام، وفي كونه ذَا مقربة صلة للرحم.
والمقربة: قرابة النسب وهو مصدر بوزن مَفْعَلة مثل ما تقدم في {مسغبة}.
والمسكين: الفقير، وتقدم في سورة البقرة (184) عند قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين وذا متربة} صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف.
والمتربة مصدر بوزن مفْعَلة أيضاً وفعِله تَرِب يقال: ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العُروِّ من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منه قولهم في الدعاء: تَرِبت يمينك: وتربَت يداك.
و{أو} للتقسيم وهو معنى من معاني (أو) جاء من إفادة التخيير.
واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فكّ الرقاب والإِطعام كنايةً عن انتفاء تحلّيهم بشرائع الإِسلام لأن فكّ الرقاب وإطعام الجياع من القُربات التي جاء بها الإِسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الأخلاّء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيماً ولا مسكيناً في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده.
وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعَمين لأن تلك المطاعم كانوا يدْعُون لها أمثالهم من أهل الجِدّة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة.
وفي حديث مسلم «شر الطعام طعامُ الوليمة يُمْنَعْها من يأتيها ويُدعى إليها من يأباها» وروى الطبراني: «شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى إليه الشَّبْعان ويُحبس عنه الجائع».
وإن كان المراد من الإِنسان واحدًا معيناً جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذَمّاً له باللّؤْم والتفاخرِ الكاذب، وفضحاً له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإِسلام فلم يغرم غرامة في فَكاك أسير أو مأخوذٍ بدم أو مَنّ بحُرية على عبدٍ.
وأيَّاَ مَّا كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء. اهـ.